هل يتكرر الكساد العظيم مثل ثلاثينيات القرن الماضي؟

Image description
الأحد 18 سبتمبر 2022 - 02:09 رويترز

يواجه العالم اضطراب أسواق الأسهم والسندات والأوراق المالية إضافة إلى ارتفاع معدلات التضخم والزيادة الكبيرة في كلفة المعيشة ويصاحب ذلك تباطؤ النمو الاقتصادي في أكثر من بلد من البلدان ذات الاقتصادات الكبيرة. لذا تتصاعد المخاوف من "ركود عظيم" مثل ذاك الذي شهده الاقتصاد العالمي في الأزمة المالية العالمية أو كالذي شهده العالم ما بين الحربين العالميتين في النصف الأول من القرن الماضي، وبدأ بانهيار الأسواق الأميركية في أكتوبر 1929.

يختلف الكساد وحتى الركود العظيم عن الركود الاقتصادي الذي يعد أمراً طبيعياً ضمن الدورة الاقتصادية في الاقتصادات الرأسمالية، ويشبه الركود الدوري المعتاد دورات نشاط الأسواق التي لا تستمر مؤشراتها بالصعود الدائم وإنما غالباً ما يعقب الارتفاع المستمر هبوط في المؤشرات تحتلف درجته. فإذا لم يكن الهبوط في مؤشرات الأسواق كبيراً نسبياً ولا يستمر لفترة طويلة، ربما يُعد عملية "تصحيح" أما الهبوط الكبير في مؤشرات الأسواق الذي يوصف بتعبير "انهيار" فهو يتكرر تقريباً بالشكل ذاته الذي يتكرر به الركود الاقتصادي، وعلى الرغم من الارتباط في أحيان كثيرة بين انهيار السوق وركود الاقتصاد فإن الاقتصاد يدخل في ركود نتيجة عوامل أخرى عديدة غير وضع السوق.

السوق والركود

بالنسبة إلى الأسواق هناك اتفاق عام بين المتعاملين فيه ومحلليه على أن هبوط مؤشر أسهم ما بمعدل يصل إلى نسبة 20 في المئة تقريباً في فترة قصيرة يعني "انهيار" السوق، بمعنى أن عمليات بيع الأسهم تزيد على عمليات الشراء ويظل السوق في "ركود" حتى تبدأ عمليات الشراء تزيد على البيع وترتفع مؤشرات الأسهم مجدداً، وغالباً لا يستغرق ذلك وقتاً طويلاً، على حسب الظروف العامة لاقتصاد ذلك السوق من نمو النشاط الاقتصادي واستقرار أسعار الفائدة وغيرها من العوامل.
ومع أن مؤشر "أس أند بي" للشركات الكبرى في "وول ستريت" بنيويورك هوى بنسبة 20 في المئة في يونيو (حزيران) الماضي من أعلى مستوى له في نوفمبر 2021، فإن المؤشر أخذ في الارتفاع التدريجي بعد ذلك ودخل في مرحلة تذبذب أقل حدة في الأسابيع الأخيرة ويعد مؤشر "أس أند بي" قياسياً للأسواق الرئيسة في العالم.

أما بالنسبة إلى الاقتصاد فإن الركود يعني بتعريف مبسط تراجع النمو في النشاط الاقتصادي عموماً إلى حد انكماش الناتج المحلي الإجمالي أي نموه سلباً، وبحسب ما يصاحب ذلك الانكماش في النشاط الاقتصادي من عوامل أخرى يكون وصف الركود أو الكساد.

ليس هناك تعريف رسمي محدد للركود الاقتصادي، لكن معظم الاقتصاديين يتفقون على أن أي اقتصاد يعتبر في حالة ركود إذا ما شهد نمواً سلبياً للناتج المحلي الإجمالي لربعين متتاليين في العام، ويعرف ذلك بأنه "ركود تقني" لكن لا يعلن الركود رسمياً إلا بعد أخذ عوامل أخرى في الاعتبار غير انكماش الناتج المحالي الإجمالي.

ولأن الاقتصاد الأميركي أكبر اقتصاد في العالم، إذ إنه معيار وضع الاقتصاد العالمي كله تقريباً، فإن "المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية" الذي يحدد وضع الاقتصاد منذ نحو قرن هو من يعلن رسمياً إن كان الاقتصاد الأميركي في ركود أم لا، ولم يصدر عنه بعد ما يؤكد أن الاقتصاد الأميركي في ركود على الرغم من أن الناتج المحلي الإجمالي انكمش في الربع الأول من العام الحالي بنسبة 1.6 في المئة ثم انكمش مجدداً في الربع الثاني بنسبة 0.6 في المئة ويردد رئيس الاحتياطي الفيدرالي (البنك المركزي) الأميركي أن الاقتصاد ليس في ركود بعد.

ذلك لأن المكتب يأخذ في الاعتبار عوامل أخرى غير نسبة نمو/ انكماش الناتج المحلي الإجمالي من أهم تلك العوامل وضع سوق العمل، من ناحية معدل البطالة في الاقتصاد وقدرته على التوظيف ومعدلات الأجور، وكذلك معدلات نشاط التصنيع وإنفاق المستهلكين ووضع السوق العقاري وكل تلك العوامل مترابطة تقريباً، لكن مؤشراتها تتحرك بشكل مختلف ولأن البطالة في الولايات المتحدة انخفضت من نحو 9 في المئة في فترة أزمة وباء كورونا إلى نسبة 3.6 في المئة، وما زال الاقتصاد يوفر وظائف جديدة كما أن الإنفاق الاستهلاكي وإن تباطأ لكنه لم يصل إلى توقف نمو، فإن "المكتب الوطني للأبحاث الاقتصادية" لم يعلن أن الاقتصاد في ركود، وإن كان الإعلان الرسمي يمكن أن يأتي بعد فترة الركود وانتهائها أحياناً.

وعلى الرغم من أن الركود القصير في الاقتصاد الأميركي ومعظم الاقتصادات حول العالم في عام 2020 مع أزمة كورونا، فإن ذلك لم يكن وضعاً خطيراً لأنه ناجم عن فعل قسري متعمد بإغلاق الاقتصاد للحد من انتشار الوباء وبالتالي عاد النمو بعد نهاية الإغلاق، لكن الانتعاش لم يكن قوياً بما يكفي لتفادي تبعات ذلك الردود في صيف 2020. وجاءت الحرب في أوكرانيا وأزمة الطاقة الحالية لتزيد من التشاؤم بشأن النمو وبالتالي زيادة احتمالات الركود إن لم تكن اقتصادات كثيرة مثل الاقتصاد البريطاني واقتصادات أوروبية في حالة "ركود تقني" بالفعل.

الكساد والركود

والكساد هو فترة ركود عميق ممتدة، أي انهيار النشاط الاقتصادي لفترة طويلة من الزمن أطول من فترات الركود، قبل أن يعاود الاقتصاد النمو. وليس هناك تعريف محدد للكساد إنما هو ركود أعمق وأطول، أما اختلاف الكساد عن الركود فيعود إلى عوامل عدة، منها أن الركود غالباً ما يكون لمدة أشهر (غالباً نحو 11 شهراً أو ما يزيد قليلاً عن عام)، أما الكساد فيمتد لسنوات ويحتاج التعافي منه إلى سنوات أطول.

ثم في حالات الكساد يكون انكماش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة كبيرة جداً وتكون معدلات البطالة في حالة الكساد أعلى منها في حالة الركود وغالباً ما يقتصر الركود على اقتصاد بلد أو حتى أكثر من بلد أما الكساد الاقتصادي فيكون حالة عامة تطال الاقتصاد العالمي كله.

وكما أشرنا في البداية فإن الركود الاقتصادي حالة متكررة وجزء من الدورة الاقتصادية الطبيعية في الاقتصادات الرأسمالية (نمو يعقبه ركود يعقبه نمو وهكذا). وعلى مدى القرن الماضي شهد الاقتصاد الأميركي والاقتصاد العالمي ككل حالات ركود عدة (أكثر من 11 ركوداً اقتصادياً ما بين 1945 و2008)، لكن العالم كله لم يشهد سوى حالة كساد واحدة في القرن الماضي، هي الكساد العظيم في نهاية الثلث الأول من القرن العشرين (من 1929 حتى 1933 وبعض التقديرات تقول إنه استمر عقداً حتى 1939).

وإذا ما استثنينا الركود خلال أزمة كورونا في 2020 تكون أهم حالة ركود هي تلك التي صاحبت الأزمة المالية العالمية من نهاية 2007 حتى عام 2009، صحيح أن ذلك الركود كان أطول مدة من حالات الركود التقليدية إذ استمر نحو عام ونصف العام، لكنه يظل أخف وطأة من ركود منتصف السبعينيات من القرن الماضي الذي استمر أقل من عامين (من نهاية 1973 حتى 1975)، لكن الاقتصاد العالمي احتاج إلى فترة أطول كي ينتعش ويعاود النمو الإيجابي.

لذا، يصف كثيرون الركود خلال الأزمة المالية العالمية بـ"الركود العظيم"، لكنه يظل ركوداً وليس كساداً. إذ إنه على الرغم من حدته وعمقه تمكن العالم باستخدام السياسة النقدية (خفض سعر الفائدة للصفر أو بالسالب) والسياسة المالية (ضخ تريليونات الدولارات في الاقتصاد لدفع النشاط والنمو) من الخروج من الركود وعودة النمو.

ولتوضيح الفارق بين الركود والكساد نذكر أنه في فترة الركود العظيم من 2007 حتى 2009، انكمش الناتج المحلي الإجمالي لأكبر اقتصاد في العالم بنسبة 4.3 في المئة، بينما في الكساد العظيم من 1929 حتى 1939 انكمش الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 30 في المئة وارتفعت معدلات البطالة في الركود العظيم لتتجاوز نسبة 10 في المئة بينما في فترة الكساد العظيم بلغت 25 في المئة.

ولم يخرج الاقتصاد الأميركي من الكساد العظيم إلا عام 1941، حين دخلت الولايات المتحدة الأميركية الحرب العالمية الثانية إلى جانب الحلفاء ودارت مصانع السلاح وغيرها موفرة فرص عمل وبالتالي زادت الدخول والإنفاق الاستهلاكي الذي أعاد النشاط الاقتصادي للنمو.

الوضع الحالي

تعود أسباب المخاوف التي تجعل البعض يتوقع كساداً هذه المرة وليس ركوداً فحسب حتى وإن كان "ركوداً عظيماً" إلى بعض العوامل، منها أنه خلال أزمة كورونا لم يتم التعافي من الركود، وأن استمرار ارتفاع معدلات التضخم وبالتالي تشديد البنوك المركزية للسياسة النقدية (رفع أسعار الفائدة)، يجعل توقعات الركود أشد وطأة. ثم إن الحرب في أوكرانيا والعقوبات على روسيا زادتا من احتمالات أزمة طاقة تدفع النشاط الصناعي للتباطؤ وربما التوقف، ويبدو ذلك واضحاً من تحركات الأسواق التي تعكس في الأغلب الثقة في الاقتصاد ويقدر معظم الاقتصاديين والمحللين أن يستمر الاضطراب في الأسواق لما تبقى من العام الحالي 2022 وربما يداية العام المقبل 2023.

لكن إذا ما أخذنا في الاعتبار ما سبق من عوامل وفوارق بين الركود والركود العظيم والكساد العظيم، يمكن أن نخلص إلى أن احتمالات الكساد الاقتصادي العالمي ليست كبيرة. فمثلاً في بدايات القرن الماضي لم يكن هناك اقتصاد كبير بحجم اقتصاد الصين، الاقتصاد الثاني في العالم الذي ما زال ينمو وإن بمعدلات متدنية جداً.

ثم إن الحرب في أوكرانيا وعلى الرغم من تعدد الأطراف المتضررة منها غير طرفيها المباشرين (روسيا وأوكرانيا) ليست حرباً عالمية مثل الحرب العالمية الأولى التي سبقت الكساد العظيم، هذا إضافة إلى أن لدى العالم الآن من الأدوات التي تمكنه من تفادي الكساد ما لم يكن متوفراً له في عام 1929، سواء من حيث قدرة الحكومات على التدخل النقدي وضخ التريليونات مباشرة أو في شكل استثمارات حكومية تعوض توقف الاستثمار الخاص.

ربما تشهد معظم الدول ركوداً اقتصادياً أو يكون بعضها بالفعل في حالة ركود والبعض الآخر على وشك بنهاية عام 2022 أو بداية 2023. لكن حتى الآن لا تزال توقعات صندوق النقد الدولي والبنك الدولي لا تشير إلى ركود اقتصادي عالمي. صحيح أن تلك التوقعات يمكن أن تتغير وتعدل بالخفض مع استمرار حرب أوكرانيا وفشل التدخلات النقدية والمالية في دفع الاقتصادات الرئيسة نحو النمو الجيد لكن الأرجح أن العالم ربما يشهد ركوداً وليس كساداً على الأقل في ضوء الوضع الحالي.