من منا لم يحمل يوما هاتفه في ساعة كسولة، متسلقا بأصبعه سلم شاشة هاتفه الذكي باحثا عن اللاشيء وعن كل شيء، من منا لم يقضي بضع أوعدة ساعات أمام منوعات مقاطع فيديوهات فيسبوكية أوانستغرامية تكاد لاتنتهي حتى يتنهي يومه أوتقتل زمن وجوده  ذلك الحين؟

هنيهات تفقدية مسروقة، تتحولت بقدرة قادر إلى ساعات طويلة مديدة، ومقاطع فيديوهات عشوائية وعبثية لا لون ولاطعم لها، تنثر شرارة أضواءها من كل حدب وصوب عبر سلاسل فيديوهاتية تلد إحداها الأخرى كدمية روسية. عن ماذا أبحث الآن؟ 

ودون تردد تتراص المقاطع تباعا غير آبهة لسؤال مثل هذا ، فلذة مشاهدة اللاشئ أكثر متعة من الإجابة عن سؤال يتعب خلايا الدماغ بعد يوم شاق كهذا ...

فلأشاهد الآن ما لذ وطاب لي من التفاهة  ولألعنها بعدما أغلق باب حديقتي السري أمام الجميع...

لابد أن هنالك جانب دفينا، وقبرا غائرا داخل نفسنا البشرية يجرنا بكل مغناطيسيته نحو التفاهة! 

ربما هي بابنا الخلفي، وسائدنا التي نصرخ في وجهها حين يحل الظلام، جدران حمامات تتحمل دمامة اصواتنا ملأ صبرها، هي تلك الغرف التي لا يعرف  عنها ذاك الغريب شيئا، تلك الغرف المليئة بالخردة  في كل  بيت، هي ما نرقص، ما نأكل، ومانتكلم حين نختلي بأنفسنا بعيدا عن تهديد الغير، بعيدا  جدا عن: "كهذا أريد أن أظهر  أمام العالم...".

فإلى أين نمضي حاملين أدمغتنا الكسلى حينما تتعب؟

"اللامعنى يا صديقي هو جوهر الوجود. هو معناها. إنه موجود حتى حيث لا أحد يريد أن يراه في الأهوال  في الصراعات الدموية... صديقي تنتفس هذه التفاهة التي تحيط بنا،إنها مفتاح الحكمة، مفتاح المزاج الجيد والرضا...".

هكذا تكلم ميلان كونديرا في كتابه "حفلة التفاهة" الذي ختم مشهده الأخير بحفلة تنعم فيها كل الشخصيات بالسعادة إذ أدركت هذه الشخصيات معنى حياتهم ومعنى التفاهة، إذ يوجه كونديرا من خلاله رسالته لجيل الألفية الثانية حيث لا يجب عليهم أن يأخدوا الحياة على محمل الجد!

ولم يفعل جيل الألفية الثانية إلا أن امتثلو لوصية كونديرا بل وزادو عليها الكثير، فعاثوا في الواقع فسادا  وتفاهة تغنوها كلمات، نصوصا، وصورا وشرائطا مصورة تحرك بساط ريح  بال عائد بنفسه نحو زمن سقطت فيه بغداد ورست فيه سفن نابليون على شواطئ مصر، عصر انحطاط... عصر انحطاط الأدب والقصيده، زمن غاب المضمون والمعنى عن الأبيات الشعرية وهجرتها الزينة والتنميق والمحسنات البديعية وأضحت باردة وخاوية المغزى، ليحقق العود الأبدي نفسه اليوم، صيغة رقمية سريعة شريهة، جائعة تسيل الأرقام الكبرى لعابها، تثير عدد المشاهدات غريزتها الشهوانية، وتفقد  أمامها مقصات الرقابة حماستها وسط  معترك إنساني راق في همجيته يصارع فيه الفرد نفسه عوضا مصارعة الأنظمة الجائعة. 

 "إن مجتمع السيطرة الرقمية يستغل الحرية أكبر استغلال، فبفضل كشف الذات وتعريتها الطوعيين لا يحدث إفشاء البيانات بالإكراه وإنما استجابة للحاجة الداخليه..."، هكذا قال بيونغ تشول هان في كتابه "السياسات السيكولوجية".

ازدادت شراهة الأنظمة فصار الجميع يعتلي المنصات صارخا عبر أناه، منهم من يلقي بظله منتحرا على على مرأى  من الجميع، ومنهم من يحمل حقيبة حياته المدماة ناشرا تقاسيمها أمام "جمهوره" ومنهم من صنع ابتسامته اللاصقة البيضاء لكل المناسبات، فما عاد للتفكير النقدي مكانا  وغاب المعنى والجدوى، فلبس كل منا ثوبه الفرداني بشياكة. 

بنيوية التفاهة

يحلل الفيلسوف الكندي "آلان دونو" في كتابه "نظام التفاهة"، ما آل إليه العالم الآن وما صارت عليه المجتمعات  الآن من التفاهة، إذ يرى أن العالم لن يفنى بسبب قنبلة نووية كما تخبرنا الصحافة... بل بسبب الإبتدال والإفراط في التفاهة والتي ستحول الواقع إلى نكتة سخيفة... بل وغاب المعنى عن مظاهر الحياة الإنسانية إذ تحدث أيضا عن الدعم الأكاديمي المساهم  في خلق التفاهة بسبب هوس الحصول على الشهادات العلمية من ماجستير ودكتوراه، فسلعت المعرفة فصار الجامعات متاجرا معرفيا وأضحت الثقافة هي أخرى متجرا ربحيا بأهداف براغماتية لا يستهان بها، وزركش الصحافي الواجهات بعناوينه وأفكار برامجه وأخبار مشاهير وفضائح يحركها هاجس ربحي ليس إلا، مثيرة استجابة  فضولنا الغريزي الذي يهوي بنا لإكتشاف كلما يعجز العقل عن فهمه، وارتكابه، فقد اضحت مشاهدة تلك الفتاة التي تستعمل مفردات السب والشتم في فيديوهاتها أمرا ممتعا ومألوفا ومثيرا للإهتمام بشكل غريب  يعجز الفهم السطحي عن إيجاد اختزال بسيط له وباتت مشاهدة مقاطع الأكل بكميات خيالية من الطعام أمرا مسليا للغاية ،ومع كل هذا نستمر في استهلاك مثل هذه المقاطع ليل نهار ونلعن تفاهتها جهرا وكلنا مقيدون بنفس السلسلة بدرجات متفاوتة الحدة. 

أنظمة تعبث... طريقها الظل...

من الجلي أن للأمرجانبا سيكولوجيا مستترا، فهمه من فهمه  وتم استعماله بحنكة ودهاء ليروى عطش ماكينات الإنتاج والإستهلاك النيوليبيرالي الجائر، فأخترقت من خلاله  ثغرات النفس البشرية بعناية فائقة وبنيت داخلها أعشاش ومستوطنات تتكاثر وتتوالد بكامل بكتيريتها،إنها أماكن الظلام،  مكامن الشر والتوبة والندم  والأحلام أين تحفرآلامنا وجروحنا، حيث تقطن وتلتقلي ظلالنا جميعا بعيدا عن من أنا ومن انت،أماكن ننكرها جميعا خلال يومنا  أماكن توازي ولا تلتقي وعينا هذا، عوالم  تعترف فيها و تحسد  الأنثى من تفوقها جمالا، أماكن يغازل  فيها هذا الذكر جمال أنثى أخرى غير أنثاه في أتم راحته.  إنها ظلالنا كما سماها" يونغ"، إنها الجانب الآخر للقمر.. والذي نخبأ عن طريقه صفاتنا المذمومة وميولاتنا الغريبة والفطرية،  لنخرج للعالم بذوات بيضاء نقية  نعيش بواسطتها كذبة زائفة من التفوق الأخلاقي السامي  والقوة  المطلقة داخل حساباتنا الرقمية، ورماد ظلالنا المسحوقة تأكل ذاتها وتقتل وقتها وراء الشاشة هاتفك حين  يحل المساء  بضجره وخيباته ومتمنياته.

إنها حفلة تفاهة جديدة، إنها السيطرة على النفس والجسد وعلى عطشنا لأن نستهلك،و جوعنا الشديد  لأن نظهر أكثر قوة وثراء وتألقا على أعتاب  بيوتنا الرقمية.

"ليس الهاتف الذكي وسيلة من وسائل المراقبة...ولكنه حجرة اعترف متنقلة، الفيسبوك هو الكنيسة...". (بيونغ تشول هان).